بسم الله الرحمن الرحيم
تقوم الشريعة الإسلامية في مواجهتها لأحداث الحياة ووضعها الحلول لمشكلاتها على
مبدأ ين متكاملين هما ثبات الأصول وتغير الفروع .
ففي جوانب الحياة التي لا تتغير تأتي الشريعة بالأحكام وفي الجوانب المتغيرة والتي تتأثر بتطور المجتمعات وتوسيع مناشطها ونمو معارفها تأتي الشريعة بمبادئ عامة وقواعد كلية قابلة لتعدد التطبيقات واختلاف الصور. وإذا طبقنا هذه القاعدة على نظام العقوبات نجد الشريعة قد جاءت بالنص القاطع على جرائم العقوبات الثابتة التي لا يخلو منها مجتمع والتي لا تتغير صورتها لصلتها بثبات الطبيعة العامة للإنسان .
أما غير تلك الجرائم فقد واجهتها بالنص على المبدأ العام القاضي بالتجريم وتركت العقوبة للسلطة المختصة في المجتمع لتحدد ما يناسب الحال وظروف المجرم ويساعد على كف الشر عن المجتمع .
وطبقا لهذا المبدأ فإن العقوبات في الشريعة الإسلامية ثلاثة أنواع :
الحدود - القصاص - التعزير
أولا :الحدود :
تعريفها: ويقصد بها ( محظورات شرعية زجر الله عنها بعقوبة مقدرة تجب حقا لله تعالى )
خصائص عقوبات الحدود .وتتميز الحدود بما يلي :
1/ أنه لا يجوز النقص منها أو الزيادة فيها .
2/ أنه لا يجوز العفو عنها لا من قبل القاضي أو السلطة السياسية أو المجني عليه وذلك بعد أن يرفع أمرها إلى السلطة أما قبل ذلك فيمكن العفو عنها من قبل المجني عليه إذا كانت جناية على معين .
3/ أنها حقوق واجبة لله تعالى ، وهو تعبير يرد في الإسلام ويراد به الحق العام الهادف إلى تحقيق المصلحة العامة للمجتمع . وجرائم الحدود هي :
1-السرقة :
تعريفها هي : أخذ مال الغير من موضع حفظه خفية بنية تملكه شروط السرقة الموجبة للحد. يشترط لتحقيق السرقة الموجبة للحد عدة شروط :
1/ أن يكون الأخذ تاما وذلك بأن يخرجه السارق من حيازة المجني عليه ، ومن حرزه المعد لحفظه ، ويدخله في حيازته ( أي السارق )
2/ كون المال المسروق منقولا .
3/ كون المال المسروق متقوما وذلك يتوفر بالأتي :
أ/ أن لا يكون الشرع قد أهدر قيمته بأن حرم الانتفاع به كالخمر وغيرها من المحرمات .
ب/ أن يكون من الأشياء التي يجعل الناس لها قيمة في تعاملهم ولا يتسامحون فيها عادة . فإذا وجدت تلك الشروط ولم توجد شبهة تدرأ الحد عن السارق وجب قطع يده من الرسغ لقوله تعالى : (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ))
2-الحرابة:
وهي خروج فرد أو جماعة ذوي منعة إلى الطريق العام بغية منع سلوكه أو أخذ أموال سالكيه أو الاعتداء على أرواحهم ودليل عقوبتها قوله تعالى : (( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فأعلموا أن الله غفور رحيم )) وقد نصت هذه الآية على عدة عقوبات لتعطي خيارات متعددة أمام مختلف الحالات فيعطى لكل حال الحكم الذي يناسبها .
أما إذا تاب المحارب قبل أن يقع في يد السلطة وأقلع عن فعل الحرابة فإنه يسقط عنه حد الحرابة كما نصت على ذلك الآيات السابقة إلا أنه يطالب بحقوق الآخرين من مال أو نفس إن كان قد ارتكب جناية على نفس أو مال .
3-الزنا :
تعريفه : هو وطء الرجل المرأة التي لا تحل له ، وأي علاقة بين رجل وامرأة لا تشتمل على عنصر الوطء لا تعتبر زنا يوجب الحد .وتختلف عقوبة الزنا باختلاف الزناة فإن كان الزاني غير متزوج فعقوبته مائة جلدة لقوله تعالى : (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة )) أما من سبق له أن تزوج فعقوبته الرجم حتى الموت ، وقد يثبت هذه العقوبة بأحاديث كثيرة .
شروط هذه العقوبة : لتطبيق هذه العقوبة يجب توفر عدة شروط :
1- شهادة أربعة عدول على حصول الفعل مع اليقين الكامل والتأكد التام مع اتفاقهم في كل تفاصيل الفعل ، وزمانه ومكانه ووضعه فإن لم يتفقوا على ذلك اعتبر إبلاغهم كاذب، وأوقع عليهم حد القذف بدلا من إيقاع حد الزنا على المتهم (( لو لا جآءو عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون )) (( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أولئك هم الفاسقون )) ومعلوم أن من زنا في موضع يراه فيه أربعة أشخاص رؤية تفصيلية فهو مجاهر بفعله مستخف بالدين وقيم المجتمع ومستخف بعلاقته مع زوجته ، ،وإذا كان مستخفا بذلك كله كان حقيقاً بهذه العقوبة الشديدة مع العلمم أن تاريخ المسلمين لم يشهد حداً- حسب علمنا –أقيم بشهادة شهود أربعة وإنما يقام هذا الحد في الغالب،برغبة الزاني تطهيراً لنفسه وتوبة عن الجرم الذي قارفه .
2/عدم توفر شبهة تسقط الحد فإذا توفرت أية شبهة أو وجد أي مخرج للمتهم سقط عنه الحد . لقوله صلى الله عليه وسلم ( إدرأوا الحدود بالشبهات )
ملاحظات حول الزنا :هناك عدة أمور ينبغي التنبيه لها :
1- أنه يندب لمن غلبته نفسه فسقط في الزنا أن يستر نفسه ولا يحدث بذلك ولا يعترف على نفسه به ببل يتوب إلى الله ويستغفره ويكفر عن فعله بالأعمال الصالحة ولا يقنط من رحمة الله لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ) وقوله تعالى : (( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار )) وقوله تعالى : (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ))
2/ ينبغي كذلك لمن أطلع على مسلم يقترف شيئاً من ذلك أن يستره ولا يبلغ عنه ( من ستر مسلما ستره الله )
3/ جعل الإسلام للبيوت حصانة تامة فلا يجوز دخولها إلا بإذن أهلها كما حرم التجسس والتصنت عليها (( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خيرا لكم لعلكم تذكرون ))
4/ أن الشخص إذا اعترف على نفسه فيجب التأكد الكامل من سلامة عقله ،وإدراكه وأن يكون ذلك بعيدا عن أي إكراه أو ضغط بل تعطى له الفرصة لعله يرجع عن إقراره ويلقن الرجوع عنه، فإذا رجع لم يقم عليه الحد ، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع ماعز – الرجل الذي اعترف بالزنا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أعرض عنه الرسول عدة مرات، وهو يكرر الاعتراف ويقول ( إني زنيت فطهرني ) والرسول يعرض عنه ويصرف وجهه ، ثم قال له ( لعلك قبلت ) ( لعلك شربت ) كل ذلك وهو مصر على الاعتراف. ثم لما أرادوا أن يقيموا عليه الحد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه هرب ونفى ما أعترف به فقال لهم : ( هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه )
الحكمة في حد الزنا : بالنظر في العقوبات الإسلامية كلها يظهر تلازم أمرين فيها :
أ- الأول كثرة الاحتياطات لصالح المتهم، وكثرة القيود على تطبيق العقوبة .
ب- صرامة العقوبة وشدتها ، وهذا يضمن أمرين:
الأمر الأول : حفظ الأمن العام وتقليل معدل الإجرام نظرا لصرامة العقوبة فالقاتل الذي يعلم أنه سيقتل والسارق الذي يعلم أنه ستقطع يده والمعتدي على العرض والأسرة الذي يعلم أنه سيرجم أو يجلد مائة سوط سيفكر في نتائج الجريمة قبل الإقدام عليها ، بينما إذا علم أنه سيحبس فقط لأشهر أو سنوات قد لا يبالي بالعقوبة وبالتالي لا يقلع عن الجرم .
الأمر الثاني : صيانة حياة المتهم وإعطاؤه كل الضمانات بأن لا تطبق عليه العقوبة إلا بعد استنفاذ كل الأعذار والبحث عن السبل التي تدرأ عنه العقوبة . وإذا نظرنا إلى الزنا نجده ينطوي على نفس الميزة حيث تشدد في وسائل إثباته (أربعة عدول ) وكانت عقوبة حازمة . وإذا نظرنا إلى تطبيق هذه العقوبة نجد لها عدة حكم .
1/حماية الأمن العام : حيث أن أهم أسباب القتل الاعتداء على الأعراض . وتطبيق الزنا يقلل من عمليات الاعتداء على الأعراض ، ومن ثم يقلل من عمليات القتل الناتج عنها وهذا ينعكس إيجابا على الأمن العام .
2/حماية الأسرة : فالأسرة لها تقديرها الخاص في الإسلام ، ومن شأن فشو الزنا تدميرها والعصف بكيانها واضطرابالعلاقة ببين أطرافها والعقوبة الصارمة للزنا من شأنها أن تقلل من جرائم الزنا، مما ينعكس إيجابا على الأسرة بشكل مزدوج فصاحب الأسرة الزاني تساهم العقوبة في ردعه من الزنا مما يعود على أسرته بالاستقرار، والأسرة المعتدى عليها كذلك ستستفيد من تقليل فرص الزنا بهذه العقوبة فيزاد استقرارها .